علم التفسير
كانت أول أعمال المسيح بعد القيامة من الموت، تفسير الكتب المقدسة، إذ يخبرنا البشير لوقا أنه تقابل مع اثنين من التلاميذ، وابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ، (لو24: 27). ويأتي الفعل "يفسِّر" في اللغة اليونانية من الفعل، "'ermēneuō"، هيرمينيفو، والذي منه تم اشتقاق لفظة "hermeneutics" في اللغة الإنجليزية، بمعنى تفسير أو شرح. إن التفسير اللائق والمناسب للكتب المقدسة من الأمور الهامة بالنسبة إلي المسيح ورسله. ولا يفوتنا أن بعضًا من نصوص العهد الجديد تدين التفسير غير المستقيم للأسفار المقدسة. يقرر الرسول بطرس أن الكتب المقدسة فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ، (2بط3: 15-16). وهنا، يذكر لنا الرسول بطرس أمرين عن الناس الذين يحرفون الكتب: هم من غير العلماء، أي غير متعلمين، كما أنهم غير ثابتين، (اقرأ: أع17: 11، 2تي2: 15). يا لها من سخرية في هذه الأيام أن يعتبر الكثيرون في كنائسنا، وللأسف من خدام الكلمة أن البساطة أو بالأحرى الجهل بالعزوف عن التفسير قمة النمو الروحي! والأكثر، أنهم يؤكدون على ذلك كما لو أن دراسة المكتوب هي عمل مضاد للإيمان. على كلٍ، يحذِّرنا الرسول بطرس من أمثال هؤلاء الناس الذين نشاهدهم يعظون كثيرًا سواء من على المنابر أو القنوات الفضائية . فإن كنا بالفعل نحب الكتاب المقدس، علينا أن نجتهد دراسته مفصلين كلمة الحق بالاستقامة، (2تيم2: 15).
ما هو التفسير؟
التفسير هو علم وفن شرح الأسفار المقدسة. والتفسير علم بسبب القواعد والمبادئ التي تحكمه وتوجهه. وهو فن أيضًا، لأن تطبيق تلك القواعد أو المبادئ ليس بالعملية الآلية السهلة بل مسألة تتطلب مهارة خاصة . شبه رام، Ramm، التفسير بلعبة الشطرنج، فمعرفة لاعب الشطرنج بكل قواعد ومبادئ لعبة الشطرنج، لا تجعل منه لاعبًا متميزًا. إن معرفة قواعد ومبادئ اللعبة ليست كافية من أجل التفوق فيها، بل لا بد من تطبيق هذه القواعد والمبادئ بمهارة. وهكذا، فإن معرفة قواعد ومبادئ التفسير لا تجدي شيئًا في التفسير. إن لم يصحبها المهارة، والاتضاع، والرغبة الصادقة في معرفة فكر الله من أجل الفهم الحقيقي لكلمته، لنكن مثل أهل بيرية الذين تاقوا بشدة إلي فهم الكتب، وتحملوا عناء الفحص كل يوم من أجل التحقق من الأمور التي كان الرسول بولس يعظ بها، (أع17: 11-12).
يقترب المفسر من الكتاب المقدس وهو محمَّل بكثير من الافتراضات والأفكار الشخصية المسبقة، إلا أن الاتضاع السليم، والاتكال على الروح القدس، والرغبة في معرفة الحق كلها أمور تساعد المفسر على اكتشاف الحق. ومع هذا قد لا يكون المفسِّر المخلِص محقًا على الدوام في كل تفسيراته. وقبل أن نتأمل مؤهلات المفسر، لنقرأ ما قاله مرةً جون ويسلي: "قد تنازل الله ليفسح لي الطريق المؤدي إليه، ومن أجل هذه الغاية أتى من السماء.
بالنسبة لنا كبشر، للتفكير الواضح والجيد أهمية عظمى. نعلم أن الله خلقنا على صورته، وأحد مظاهر هذه الصورة هي القدرة العقلية على التفكير. وقد منح الله الإنسان قدرة على التفكير، ليستقبل إعلاناته الإلهية؛ فالإنسان لا يملك الحق في ذاته مثل الله، ولذا عليه أن يتلقى ذلك الحق من الله. ولأن الكتاب المقدس إعلان خاص من الله لأولاده، فلكي يتجاوب الإنسان معه عليه أن يفكر، ويفهم، ويستمع إلي الله، ويفهم، ليصبح حق الله المعلن في الكتاب جزءًا من كيانه. يعني الاستماع إلي الله طاعة للحق كما يعلنه الكتاب. إن الله هو من وهبنا القدرة على أن نفكر ونعقل من أجل خلاصنا ولمجده.
لله طرق كثيرة يعلن بها عن نفسه، (أع14: 16-17). وقد أعلن بالفعل عن قدرته ووجوده من خلال إعلان عام في الطبيعة والتاريخ والضمير البشري، (مز19؛ رو1-2؛ أي38-40). أيضًا، لله إعلان خاص ومباشر، يختلف عن إعلانه العام، ويتمثل هذا الإعلان في حديثه المباشر مع الأنبياء، والرسل، (2بط1: 20-21)، وفي ابنه المتجسد، (عب1: 1-2). ويُعرَف السجل الذي يشرح لنا إعلان الله الخاص باسم الكتاب المقدس. يمثل الكتاب إعلانًا مكتوبًا عن الله ومقاصده، مقدَّمًا من الله لشعبه. إن الكتاب هو الأساس لكل ما يرتبط بالإيمان المسيحي: الفداء، والعبادة، والتسبيح، والصلاة، والوعظ، والتعليم. لكن كيف نفهم هذا الإعلان الخاص؟
الافتراضات أو المسلمات المسبقة هي مجموع الأفكار والمفاهيم التي اكتسبناها بوعي أو بدون وعي عن الله، والعالم، والكتاب المقدس منذ الطفولة إلى الآن. وتضم هذه الأفكار ما هو مقبول أو غير مقبول في ثقافتنا أو مجتمعنا، بمعنى أن بعضها رديء والبعض الآخر جيد. تحكم المسلَّمات المسبقة تفسيرنا ... فعندما نقوم بشرح أي نص كتابي، نفعل ذلك في إطارها. ومخدوع أو ساذج المفسر الذي يدعي أنه يفسر الكتاب بدون افتراضات مسبقة، أو أنه يدرس نصوصه بطريقة استقرائية وبشكل موضوعي.
إن أي دارس للكتاب المقدس لا يمكنه تجنب معرفة تاريخ التفسيرات الكتابية، فالدارس يلاحظ الاتجاهات والتطورات في الفكر اللاهوتي عبر الزمن. وبالنسبة لنا، نسترشد يقينًا بالإسهامات التفسيرية الإيجابية التي قدمها في الماضي لاهوتيون أتقياء. لابد أن نتعلم كيف ناضل رجال الله في كثير من القضايا التي نناضل نحن فيها اليوم. علينا أن نستفيد من هؤلاء المعلمين العظام. ولكن في نفس الوقت، لا بد أن نحترس من الأخطاء التفسيرية التي ارتكبها غيرهم . أما التفسيرات الخاطئة فتقينا من ارتكاب نفس الأخطاء مرة أخرى.